سهام العبودي.. المفتونة باللغة والتجريب والنوستالجي: جيل القاصات اليوم محظوظ.. والقصة فنٌّ لن يموت!
حوار: عبد الله السمطي
مجلَّة الجزيرة الثقافيَّة
الاثنين 14 ,جمادى الأولى 1429 العدد 248
حوار: عبد الله السمطي
مجلَّة الجزيرة الثقافيَّة
الاثنين 14 ,جمادى الأولى 1429 العدد 248
تهتمين في قصصك بالذاكرة، واستدعاء الماضي: هل الأفق السردي ينفتح لديك عبر التذكر أم عبر التخيل؟
يمكن القول إنَّ الماضي حين يُستحضر إبداعيًّا فإنه يكون مزيجًا بين الأمرين؛ فالتذكر المحض هو مجرد تسجيل، لكن التخيُّل ومزج الواقع بالمبتدع من الأحداث والصور هو ما يحول حدثا بعينه إلى عمل أدبي، جزءٌ مما كتبت وليس كله كان في الأصل ومضة خاطفة من الماضي، شخص أو حدث أو حتى غرض مادي قد يكون تافهًا في حيِّزه الزماني ذاك، لكنَّه حين يُستدعى فنيًّا فإنَّه لا يعود مجرَّد شخص، أو حدث، أو غرض، بل يغدو رمزًا لفكرة، قد تكون مجرَّد فكرة بسيطة، أو فكرة محمَّلة بشؤون الحياة الكبرى وأسئلتها المحيِّرة، في قصَّتي (خيط ضوء يستدق) مثلاً كانت الجدة تصنع السفر لأنها كانت معلَّقة بآخر تجاربها، تغالب الانتهاء والتلاشي من خلال ذاكرتها، وما يختزله الجريد من هذه الذاكرة، فالذاكرة تملأ فراغ النظر الفعلي، وسواء أكانت الجدَّة موجودة أو غير موجودة، متخيَّلة أو حقيقيَّة فإن مجرَّد منظر امرأة تصنع السفر قد لا يوحي بشيء لأيِّ قاصٍ، دون أن يجعله الخيال منظرًا متحرِّكا غنيًّا بالدلالات والانبعاثات.
ما هي اللحظة الزمنية التي تفضلين التعبير عنها سرديا، وفي مجموعتك"خيط ضوء يستدق" لمحنا تركيزا على الماضي ؟كما قلت آنفًا فإن الماضي حين يعود فإنَّه يعود في شكل دلالات ورؤى أفكار، وربما مفارقات تبرز بمجرَّد مقاربة الماضي مع الواقع داخل النصِّ الأدبي.
ولا أنكر مع ذلك بأنني شخصيَّة نوستالجية إلى حدٍّ كبير، حنيني إلى الماضي قوي سواء أكان إلى الماضي القريب حيث الطفولة والسذاجة والبساطة، أو الماضي البعيد المتمثل في التاريخ؛ لأنَّ الكتابةـ كما أراهاـ تجربة قرائيَّة: قراءة الذات، والوجود الحاضرينِ، و الذات والوجود المكتوبين (في هيئة ذاكرات سابقة مدوَّنة، أو منقوشة في الوعي)، ونحن حين نكتب فإننا نكتب على أساس أنـَّنا جزء من سلسلة اختبار الحياة وتدوينها، ونقلها، وهكذا حتَّى تنقضي الحياة ذاتها، فكلُّ تداخل بين الماضي والحاضر هو تداخل طبيعي في ضوء قدرة الإنسان على اختزان التجارب واسترجاعها وتوظيفها.
المهم في رأيي أن يأتي الماضي بعفويَّة، فلا نكتب حوله، أو به لأنـَّه الزمن المحبَّب، بل لأن لحظة ما تفضِّل أن تلتبس بملامحه كي تولد هي على طريقتها.
كيف ترين تحولات المشهد القصصي في السعودية اليوم، هل تعود القصة القصيرة لتحتل مكانتها السابقة التي كانت تعثر عليها في ثمانينيات القرن الماضي؟ المشهد الأدبي بعامَّة يشهد حالة ثورة وحراك، والدرس التاريخي ينبئنا دومًا أن الثورة يمكن أن تأخذ في طريقها الكثير من الضحايا، المهم أن لا يكون الذوق والقيم الأخلاقية هي أولى ضحايا ثورة الأدب.
القصة فن لن يموت، سيتطور، ستحدث فيه نقلات جريئة، ونصوص مغامرة، لكننا سنظل نقرأ القصة التقليدية، سنشهد فورات في نتاج هذا الفن وسنرى خمولاً على حساب أنواع أدبية أخرى، لكن الأمر المؤكَّد بالنسبة لي أن القصَّة القصيرةـ وغيرها من الفنون الأدبيةـ حين تمرُّ بفترة خمول فإنها ستعود وهي محمَّلة بطاقات جديدة هي خلاصة ما وصلت إليه الفنون الأخرى من تطور في ذلك الأثناء، بل بكلِّ تطور مرَّت به الحياة؛ اليوم حين عادت القصَّة عادت وهي محمَّلة بلغة الشعر، ومغلفة بتفاصيل قصيدة النثر، عادت وفي جعبتها كل ما نضح من عقل البشرية من تقنيات فهيَّأت لها فضاءات الحياة الجديدة: (الهاتف النقال، الإنترنت، القنوات الفضائيَّة بل وحتى الأحداث السياسيات، والتحوُّلات الاجتماعيَّة، ومخاضات التاريخ الهائلة) كمًّا لا ينضب من الأفكار المدهشة، والتفاصيل الدقيقة.
المشهد الأدبي اليوم مهيَّأ لأن ينتج نصوصًا قصصيَّة ذات مستوى متقدِّم من الوعي والإدراك الفنيين لمتطلبات القصَّة القصيرة الحديثة، مع العمق في الرؤية، واستبطان كلِّ ملامح الحياة المعاصرة بشكلٍ تشريحي يوغل في الظواهر، ولا يقف عند قشورها.
ما هو الفضاء القصصي الذي تودين تحكيكه ( أو النسج عليه) في فضاء كتابتك للقصة ؟ بالنسبة لي يكمن الجمال دائمًا في التفاصيل، نحن غارقون في تفاصيل الحياة حتى أخمص قدمينا، كلُّ تفصيل في الحياة مهما كان حجمه هو مشروع قصَّة قصيرة، بشرط أن يعبِّر عن رؤية، أنا أتعلَّق بالتفاصيل، وبالأغراض الدقيقة وغير المرئيَّة، أجد دائمًا أن لعالم الأفكار الكبيرة والأجسام الهائلة عالم موازٍ من الأفكار الصغيرة والهوامش، والذرَّات، وأعتقد أن القاصَّ معنيٌّ بأن يستغلَّ كلَّ لفتة يمكن أن تمنح قصَّة: موقف، حالة، شخص، غرض، أو كائن حي يشاركنا الحياة، كلُّ الأشياء كلُّ الناس وكلُّ ما مرَّ بالإنسان في وقت ما يخضع في ذهن الأديب لعمليَّة تجفيف تشبه عمليَّة تجفيف الطعام، وحين تأتي الحالة الملائمة لاستعماله في فضاء نصٍّ ما فإنَّه يكون حاضرًا وبكامل نكهته، في عقلي أعرف أن كثيرًا من الأشخاص والمواقف والكائنات تكون دائماً على أهبة (عنوان)!
يبقى أن أقول أنني مفتونة باللغة، كلُّ الذين قرؤوا نصوصي يدركون ذلك لأوَّل وهلة، يدهشني في اللغة قدرتها على التشكُّل والتخلُّق في مطارح مختلفة، بشكل مختلف كل مرَّة مع أنها نفس الكلمات، وكلما امتلكت الأحاسيس نظامها الخاص من شبكة الكلمات كلَّما تضاعفت فرادتها، واكتسبت هويتها الخاصَّة، أقول دوما أن تشكيل اللغة بالنسبة للنصِّ المكتوب مثل الصوت بالنسبة للكلام الشفاهي؛ تعرف أن الصوت هو صوت فلان بمجرَّد أن تسمعه، كما تعرف أن هذا هو نصُّ فلانٍ بمجرَّد أن تقرأه، ليس لأنـَّه صار مكرَّرًا أو مألوفًا بشكل غير مقبول؛ بل لأنه يمنح الأحاسيس البشريَّة الشائعة قدرًا من الحصريَّة، والفرادة من خلال نسيجه اللغوي الخاص.
ثمة تواز لديك بين القصة القصيرة المعهودة، والقصة القصيرة جدا.. ما الذي يعنيه هذا التوازي؟ في أفلام الرسوم المتحرِّكة تومض لمبة فوق رأس الشخصيَّة فندرك ـ تلقائيًّا ـ معنى ذلك وهو: أنَّ ثمة فكرة قد طرأت لهذه الشخصيَّة، هنا بالضبط تقع بهجة (الإشارة)، في القصَّة القصيرة جدًّا يكتفي القاصُّ بالإشارة، والتلميح لمغزاه، معتمدًا على ذكاء قارئه، دون إفراط في الشرح والتوضيح، مكتفيا بحسن ظنِّه في عقل المتلقِّي إمَّا بفهم المعنى المراد، أو حتى ابتكار معناه الخاص به، فنحن نتواطأ على أن نبذل جهدًا يحتمل أن يصل بنا إلى إدراك لمغزىً قد يكون واحدًا، وقد يكون متعدِّدًا، لأننا ببساطة نتعامل مع الأدب، وفسحته التأويِّلية اللذيذة.
وكما تفضَّلتم في السؤال فإنَّ القصَّة القصيرة جدًّا هي ضرب من القصِّ موازٍ للقصة القصيرة التقليديَّة وليست بديلا لها؛ بمعنى أن قصَّة عادية لا يمكن أن تكون قصة قصيرة جدًّا أو العكس، على الأقل بالنسبة لقاص واحد يكتب النوعين، وبالنسبة لي القصَّة القصيرة جدًّا هي ضرب من التجريب القصصي، ضرب ناجح ومغامر وخطر، وسريع العطب؛ لأن القاصَّ يملك فكرته، أو إحساسه الخاص في لحظة ما، وهنا يمكن أن يكون هذا الإحساس متوتِّرا أو مؤلما لدرجة لا يمكن معها إلا أن يجري القاص عملية جراحيَّة سريعة وعميقة وخطرة كلُّ حركة فيها محسوبة، وكل خطأ كافٍ لقتل الفكرة، بينما يمكن للقاص أن يعالج فكرة أخرى على مدى أطول، عبر جرعات مدروسة من الكلمات، وكم كافٍ من السطور لتظهر الفكرة في شكل قصَّة قصيرة ليست أطول من القصَّة القصيرة جدًّا لأنها مطوَّلة عمدًا، بل لأن الإحساس وحده هو الذي يقود للقصَّة القصيرة جدًّا، أو يقود للقصَّة التقليديَّة.
هل يمكن القول بأن سهام العبودي وكاتبات أخريات في جيلك تشكلن اتجاها قصصيا ما، وما هي أبرز سماته ؟
لا يبلغ الأمر مبلغ الاتجاه القصصي الخاص، هناك قدر من المادَّة القصصيَّة اليوم، لكن احتساب هذه المادة اتجاها يحتاج إلى دراسة متأنيَّة، لأن المعوِّل في ذلك ليس الإطار الزمني بل المنحى الفني؛ ستكون جملة من النصوص معبِّرة عن اتجاه حين تنفرد عن سابقاتها بالإفادة من كلِّ ما استوعبه جيلها من ثقافة عصره بكلِّ تفاصيلها، أقرأ كثيرا من القصص لقاصَّات يافعات تشبه قصص أجيال سابقة، و أجد أجيالاً لها خبرتها في مجال كتابة فن القصة القصيرة تنتج نصوصًا ذات ملامح جديدة.
يمكن هنا أن نقول أن هناك جملة من السمات للنصوص القصصيَّة اليوم، منها الانفتاح على التجريب، وأعتقد أن هذا هو أجلُّ ضرورات القصِّ المعاصر؛ لأن كثرة النتاج الذي هيَّئته سهولة النشر، وشجَّعه التركيز على نتاج الأنثى الساردة يجعل من سلوك القاصَّات مسلك التجريب أمرًا ضروريًّا لتحقيق قدرٍ من الفردانيَّة وسط هذه الكثرة.
جيل القاصات اليوم محظوظ لأن جيل القرَّاء الذي يواكبه صار أكثر، وجود جمهور قارئ شيء ضروري لارتقاء القاص، يبقى أن يقوم القاص بمهمته ويرتقي بجمهور القصَّة، ويساعده على أن يجد في الأدب ما يفتقده في حياته من جمال وعمق وتأمُّل، حين أصدرت هذه المجموعة صدمت لأن كثيرًا من الناس اعتبروها تفوق مقدرتهم على الفهم، كنت أتساءل هل ما كتبت بعيد وناء لهذا الحدِّ، ويتطلَّب وقتاً لا يتناسب وسمات المجتمع السريع؟ أم أن الأمر ضريبة تدفعها الأشياء الأكثر عمقًا، ورجاحة لصالح الأشياء الطيَّارة المُبهجة!
أقول هذا الكلام لأن القصَّة ـ كما أراها على الأقلِّ ـ لا يمكن أن تكتسب مكانتها الملائمة دون أن تحرِّك ركودًا على مستوى المضمون والشكل، إذا كانت النصوص ستسلك نمطًا مألوفًا من السياقات، وشكلاً متكرِّرًا من الأداء، فإنَّ الحاجة ستكون إلى نقَّاد يجيدون العدَّ أكثر ممـَّا يجيدون البحث عن مكامن الجمال، يهمُّني أن يتطوَّر القارئ، أن نمتلك جيلاً له ملامحه الخاصَّة بالتوازي مع ملامح الإبداع الذي يُكتب له، وأن يتعلَّم هذا الجيل أن يخوض غمار التجريب من خلال القراءة كما يخوضها المبدع من خلال إبداع النصِّ.
http://www.al-jazirah.com/culture/2008/19052008/hauar28.htmولا أنكر مع ذلك بأنني شخصيَّة نوستالجية إلى حدٍّ كبير، حنيني إلى الماضي قوي سواء أكان إلى الماضي القريب حيث الطفولة والسذاجة والبساطة، أو الماضي البعيد المتمثل في التاريخ؛ لأنَّ الكتابةـ كما أراهاـ تجربة قرائيَّة: قراءة الذات، والوجود الحاضرينِ، و الذات والوجود المكتوبين (في هيئة ذاكرات سابقة مدوَّنة، أو منقوشة في الوعي)، ونحن حين نكتب فإننا نكتب على أساس أنـَّنا جزء من سلسلة اختبار الحياة وتدوينها، ونقلها، وهكذا حتَّى تنقضي الحياة ذاتها، فكلُّ تداخل بين الماضي والحاضر هو تداخل طبيعي في ضوء قدرة الإنسان على اختزان التجارب واسترجاعها وتوظيفها.
المهم في رأيي أن يأتي الماضي بعفويَّة، فلا نكتب حوله، أو به لأنـَّه الزمن المحبَّب، بل لأن لحظة ما تفضِّل أن تلتبس بملامحه كي تولد هي على طريقتها.
كيف ترين تحولات المشهد القصصي في السعودية اليوم، هل تعود القصة القصيرة لتحتل مكانتها السابقة التي كانت تعثر عليها في ثمانينيات القرن الماضي؟ المشهد الأدبي بعامَّة يشهد حالة ثورة وحراك، والدرس التاريخي ينبئنا دومًا أن الثورة يمكن أن تأخذ في طريقها الكثير من الضحايا، المهم أن لا يكون الذوق والقيم الأخلاقية هي أولى ضحايا ثورة الأدب.
القصة فن لن يموت، سيتطور، ستحدث فيه نقلات جريئة، ونصوص مغامرة، لكننا سنظل نقرأ القصة التقليدية، سنشهد فورات في نتاج هذا الفن وسنرى خمولاً على حساب أنواع أدبية أخرى، لكن الأمر المؤكَّد بالنسبة لي أن القصَّة القصيرةـ وغيرها من الفنون الأدبيةـ حين تمرُّ بفترة خمول فإنها ستعود وهي محمَّلة بطاقات جديدة هي خلاصة ما وصلت إليه الفنون الأخرى من تطور في ذلك الأثناء، بل بكلِّ تطور مرَّت به الحياة؛ اليوم حين عادت القصَّة عادت وهي محمَّلة بلغة الشعر، ومغلفة بتفاصيل قصيدة النثر، عادت وفي جعبتها كل ما نضح من عقل البشرية من تقنيات فهيَّأت لها فضاءات الحياة الجديدة: (الهاتف النقال، الإنترنت، القنوات الفضائيَّة بل وحتى الأحداث السياسيات، والتحوُّلات الاجتماعيَّة، ومخاضات التاريخ الهائلة) كمًّا لا ينضب من الأفكار المدهشة، والتفاصيل الدقيقة.
المشهد الأدبي اليوم مهيَّأ لأن ينتج نصوصًا قصصيَّة ذات مستوى متقدِّم من الوعي والإدراك الفنيين لمتطلبات القصَّة القصيرة الحديثة، مع العمق في الرؤية، واستبطان كلِّ ملامح الحياة المعاصرة بشكلٍ تشريحي يوغل في الظواهر، ولا يقف عند قشورها.
ما هو الفضاء القصصي الذي تودين تحكيكه ( أو النسج عليه) في فضاء كتابتك للقصة ؟ بالنسبة لي يكمن الجمال دائمًا في التفاصيل، نحن غارقون في تفاصيل الحياة حتى أخمص قدمينا، كلُّ تفصيل في الحياة مهما كان حجمه هو مشروع قصَّة قصيرة، بشرط أن يعبِّر عن رؤية، أنا أتعلَّق بالتفاصيل، وبالأغراض الدقيقة وغير المرئيَّة، أجد دائمًا أن لعالم الأفكار الكبيرة والأجسام الهائلة عالم موازٍ من الأفكار الصغيرة والهوامش، والذرَّات، وأعتقد أن القاصَّ معنيٌّ بأن يستغلَّ كلَّ لفتة يمكن أن تمنح قصَّة: موقف، حالة، شخص، غرض، أو كائن حي يشاركنا الحياة، كلُّ الأشياء كلُّ الناس وكلُّ ما مرَّ بالإنسان في وقت ما يخضع في ذهن الأديب لعمليَّة تجفيف تشبه عمليَّة تجفيف الطعام، وحين تأتي الحالة الملائمة لاستعماله في فضاء نصٍّ ما فإنَّه يكون حاضرًا وبكامل نكهته، في عقلي أعرف أن كثيرًا من الأشخاص والمواقف والكائنات تكون دائماً على أهبة (عنوان)!
يبقى أن أقول أنني مفتونة باللغة، كلُّ الذين قرؤوا نصوصي يدركون ذلك لأوَّل وهلة، يدهشني في اللغة قدرتها على التشكُّل والتخلُّق في مطارح مختلفة، بشكل مختلف كل مرَّة مع أنها نفس الكلمات، وكلما امتلكت الأحاسيس نظامها الخاص من شبكة الكلمات كلَّما تضاعفت فرادتها، واكتسبت هويتها الخاصَّة، أقول دوما أن تشكيل اللغة بالنسبة للنصِّ المكتوب مثل الصوت بالنسبة للكلام الشفاهي؛ تعرف أن الصوت هو صوت فلان بمجرَّد أن تسمعه، كما تعرف أن هذا هو نصُّ فلانٍ بمجرَّد أن تقرأه، ليس لأنـَّه صار مكرَّرًا أو مألوفًا بشكل غير مقبول؛ بل لأنه يمنح الأحاسيس البشريَّة الشائعة قدرًا من الحصريَّة، والفرادة من خلال نسيجه اللغوي الخاص.
ثمة تواز لديك بين القصة القصيرة المعهودة، والقصة القصيرة جدا.. ما الذي يعنيه هذا التوازي؟ في أفلام الرسوم المتحرِّكة تومض لمبة فوق رأس الشخصيَّة فندرك ـ تلقائيًّا ـ معنى ذلك وهو: أنَّ ثمة فكرة قد طرأت لهذه الشخصيَّة، هنا بالضبط تقع بهجة (الإشارة)، في القصَّة القصيرة جدًّا يكتفي القاصُّ بالإشارة، والتلميح لمغزاه، معتمدًا على ذكاء قارئه، دون إفراط في الشرح والتوضيح، مكتفيا بحسن ظنِّه في عقل المتلقِّي إمَّا بفهم المعنى المراد، أو حتى ابتكار معناه الخاص به، فنحن نتواطأ على أن نبذل جهدًا يحتمل أن يصل بنا إلى إدراك لمغزىً قد يكون واحدًا، وقد يكون متعدِّدًا، لأننا ببساطة نتعامل مع الأدب، وفسحته التأويِّلية اللذيذة.
وكما تفضَّلتم في السؤال فإنَّ القصَّة القصيرة جدًّا هي ضرب من القصِّ موازٍ للقصة القصيرة التقليديَّة وليست بديلا لها؛ بمعنى أن قصَّة عادية لا يمكن أن تكون قصة قصيرة جدًّا أو العكس، على الأقل بالنسبة لقاص واحد يكتب النوعين، وبالنسبة لي القصَّة القصيرة جدًّا هي ضرب من التجريب القصصي، ضرب ناجح ومغامر وخطر، وسريع العطب؛ لأن القاصَّ يملك فكرته، أو إحساسه الخاص في لحظة ما، وهنا يمكن أن يكون هذا الإحساس متوتِّرا أو مؤلما لدرجة لا يمكن معها إلا أن يجري القاص عملية جراحيَّة سريعة وعميقة وخطرة كلُّ حركة فيها محسوبة، وكل خطأ كافٍ لقتل الفكرة، بينما يمكن للقاص أن يعالج فكرة أخرى على مدى أطول، عبر جرعات مدروسة من الكلمات، وكم كافٍ من السطور لتظهر الفكرة في شكل قصَّة قصيرة ليست أطول من القصَّة القصيرة جدًّا لأنها مطوَّلة عمدًا، بل لأن الإحساس وحده هو الذي يقود للقصَّة القصيرة جدًّا، أو يقود للقصَّة التقليديَّة.
هل يمكن القول بأن سهام العبودي وكاتبات أخريات في جيلك تشكلن اتجاها قصصيا ما، وما هي أبرز سماته ؟
لا يبلغ الأمر مبلغ الاتجاه القصصي الخاص، هناك قدر من المادَّة القصصيَّة اليوم، لكن احتساب هذه المادة اتجاها يحتاج إلى دراسة متأنيَّة، لأن المعوِّل في ذلك ليس الإطار الزمني بل المنحى الفني؛ ستكون جملة من النصوص معبِّرة عن اتجاه حين تنفرد عن سابقاتها بالإفادة من كلِّ ما استوعبه جيلها من ثقافة عصره بكلِّ تفاصيلها، أقرأ كثيرا من القصص لقاصَّات يافعات تشبه قصص أجيال سابقة، و أجد أجيالاً لها خبرتها في مجال كتابة فن القصة القصيرة تنتج نصوصًا ذات ملامح جديدة.
يمكن هنا أن نقول أن هناك جملة من السمات للنصوص القصصيَّة اليوم، منها الانفتاح على التجريب، وأعتقد أن هذا هو أجلُّ ضرورات القصِّ المعاصر؛ لأن كثرة النتاج الذي هيَّئته سهولة النشر، وشجَّعه التركيز على نتاج الأنثى الساردة يجعل من سلوك القاصَّات مسلك التجريب أمرًا ضروريًّا لتحقيق قدرٍ من الفردانيَّة وسط هذه الكثرة.
جيل القاصات اليوم محظوظ لأن جيل القرَّاء الذي يواكبه صار أكثر، وجود جمهور قارئ شيء ضروري لارتقاء القاص، يبقى أن يقوم القاص بمهمته ويرتقي بجمهور القصَّة، ويساعده على أن يجد في الأدب ما يفتقده في حياته من جمال وعمق وتأمُّل، حين أصدرت هذه المجموعة صدمت لأن كثيرًا من الناس اعتبروها تفوق مقدرتهم على الفهم، كنت أتساءل هل ما كتبت بعيد وناء لهذا الحدِّ، ويتطلَّب وقتاً لا يتناسب وسمات المجتمع السريع؟ أم أن الأمر ضريبة تدفعها الأشياء الأكثر عمقًا، ورجاحة لصالح الأشياء الطيَّارة المُبهجة!
أقول هذا الكلام لأن القصَّة ـ كما أراها على الأقلِّ ـ لا يمكن أن تكتسب مكانتها الملائمة دون أن تحرِّك ركودًا على مستوى المضمون والشكل، إذا كانت النصوص ستسلك نمطًا مألوفًا من السياقات، وشكلاً متكرِّرًا من الأداء، فإنَّ الحاجة ستكون إلى نقَّاد يجيدون العدَّ أكثر ممـَّا يجيدون البحث عن مكامن الجمال، يهمُّني أن يتطوَّر القارئ، أن نمتلك جيلاً له ملامحه الخاصَّة بالتوازي مع ملامح الإبداع الذي يُكتب له، وأن يتعلَّم هذا الجيل أن يخوض غمار التجريب من خلال القراءة كما يخوضها المبدع من خلال إبداع النصِّ.
[][][][]
حوار مع الصحفي التونسي: نبيل درغوث
• القصة القصيرة العربية تطورت تطورًا ملحوظًا على المستوى التقني والأسلوبي الخ... فهل استطاعت القصة القصيرة العربية الإجابة عن أسئلة الراهن العربي؟
القصة القصيرة مجتهدة جدًّا، لكنَّ الراهن العربي يضع أسئلة معجزة..! أظنُّ أن كلَّ كاتب يدَّعي أنَّه يكتب للحياة؛ يصنع نماذجه المثاليَّة، أو ينتقد بعض وجوه واقعه، غير أنَّنا نقع على مسافة بعيدة جدًّا من جعل الأدب عامَّة، أو القصة القصيرة خاصة إحدى طرق خلاصنا، أو وسيلة من وسائل قتل حيرتنا، الراهن العربي _ بكلِّ ما فيه _ يمسُّ حياة الناس بمختلف مستوياتهم، بينما يمسُّ الأدب حياة خاصَّته ومريديه، صحيح أن القصَّة قد بلغت مرحلة نضج لافت، لكن حتى مع افتراض أن هذه النصوص الناضجة قد مسَّت قضايا الراهن، وعرَّتها، وقدَّمت حلولها الناجعة، فهل سيجدي الأمر نفعًا إن لم تكن القصَّة القصيرة قد أخذت مساحتها اللائقة في التلقي والاهتمام؟!
• أنت من الباحثات المشتغلات على المدونة القصصية السعودية فما هي أهم ملامح القصة السعودية الآن؟
عوامل عدَّة تشكِّل ملامح القصَّة السعوديَّة اليوم، هناك التفات للإبداع السردي عمومًا، وهناك صوتٌ شبابي طاغٍ داخل هذا الإبداع، الصوت الشاب يحتفظ بميِّزة المجازفة والرغبة في التطوُّر والتجريب وهذا كفيل بأن ينزح بنا قليلاً عن رصيف الركود على مستوى الإبداع، أما الملامح التي يمكن تمييزها فتكمن في الوفرة السرديَّة، في وجود أصوات تبحث لنفسها عن مكان وسط هذه الوفرة، وهذا البحث هو ما يجعلني متفائلة بمستقبل القصة القصيرة؛ كلُّ من يبحث لقدمه الإبداعيَّة عن مكان في طريق السرد يعلم أن القدم لن تكون راسخة ما لم تصنع خطوة فريدة تزيح الزحام حولها، وتضمن لها المساحة الخاصة التي تمكِّن الآخرين من رؤيتها بوضوح، "التنافسيَّة" عامل إنضاج مهم، الجو المشحون بالإبداع جوٌّ معدٍ، ومحفـِّزٌ ولا شك.
هذا الجوُّ المحفـِّز هو الذي يصنع صورة القـصَّة القصيرة الآن؛ هو الذي نشَّط التجريب، والانفتاح على البنيات الجديدة في القص، كالقصِّ القصير جدًّا وهو أجلى ملامح القصَّة السعوديَّة اليوم، هناك أيضًا البنيات الجديدة، والمضامين التي تصعد مع سقف حيرة الإنسان، وقلقه المعاصر، وهمومه اليوميَّة.
بقي أن أقول إنَّه إن كان ثمة صعوبة تعانيها القصَّة اليوم في السعوديَّة فإنَّها_على الأرجح _ حالة تصارعها مع منافسها السردي: "الرواية"، أحيانًا تبدو القصَّة القصيرة كما لو كانت فنًّا مندسًّا لا يرتقي إلى شعبيَّة الرواية الجارفة التي تحظى بها الآن، ينتظر كثير من المتلقين اليوم من كاتب القصة أن يكتب رواية؛ هناك افتراض_يكاد يصبح قاعدة_يحيل إلى أنَّه إن كانت القصة "قصيرة" أو "صغيرة" أو أي وصف يقتضي مفهوم القلَّة أو الصغر فإنَّه بالضرورة سينتهي إلى مفهوم الاكتمال في مرحلة الرواية.. هذا الافتراض _ مع صعوبته وتقليله من شأن القصَّة _ ينبغي أن يدفع كتَّاب القصة إلى إحداث ثورة بيضاء تثبت فنيَّة هذا النوع السردي، واستقلاله، وتطرحه منافسًا قويًّا، وجديرًا باهتمام الجمهور العام الذي تشوِّشه تلك التصوُّرات.
• ما هي أسباب نشر مجموعتك القصصية خارج السعودية؟ هل هو قمع الرقيب؟
على الإطلاق.. نشر عملي خارج المملكة كان لأسباب شخصيَّة بحتة.
• كيف تقيمين مساهمتك في القصة القصيرة السعودية؟
• كيف تقيمين مساهمتك في القصة القصيرة السعودية؟
حين يتجه أديب ما إلى الكتابة فإنَّ النظر إلى المساحة التي يشغلها ما سيكتبه في عالم الأدب هو آخر ما يرد إلى ذهنه، لحظة الكتابة يكون تركيز الكاتب منحصرًا في نقطة واحدة هي نقطة النص، النص ولا شيء سواه، ما وراء ذلك من الإنجازات تحدِّدها أمور خارج دائرة الأديب المبدع، لأن النصَّ يكون قد خرج من دائرة الإبداع إلى دائرة التلقي: الجمهور المتذوِّق، النقـَّاد، أقول هذا لأنَّ الكتابة _ كما أراها _ هي ضربة استباقيَّة ضد النسيان، هي تكوين ذاكرة ثابتة تُسند الذاكرة المتحرِّكة، ذاكرة العقل وحده _ الذاكرة التي قد تضعف وتوهن وتتشاغل وتنقضي أو يصيبها العجز والخرَف _ نحن نكتب لأنَّ الكتابة هي الأكثر أمانة في رواية التجارب التي كانت، والاحتفاظ بها طازجة كما كانت لحظة ميلادها بسعيها لإبعاد خلاصة التجارب عن تحديثات العقل المستمرَّة، واقتراحات الزمن المحتملة، وعوارض النسيان الآتية حتمًا، الكتابة هي الوجود الزمني الآني اللحظي المقبوض عليه كي لا يُجرم في حقِّه زمن لاحق، الكاتب المشغول بحفظ تجربته التي تتفلَّت سريعًا لن يسعه أن يلتفت لاحتمالات النجاح، لأنـَّه يقبض على لحظة خاطفة.. قد تمضي ولا تعود، وهذا الصدق والحيازة الكاملة للوعي الإبداعي لحظة الكتابة هو المساهمة الحقيقيَّة!
بالنسبة لما قدَّمته فلا أعدَّه أكثر من تجربة شخصٍ يمسُّ بطرف قدمه الماء كي يكتشف: أيَّ مغامرة هو مقبل على خوضها، مجموعتي الأولى لم تشتهر كثيرًا، لم تكن ضاربة قياسًا بالنتاج الأدبي الذي سبقها ولحقها، لكنني سعدت لأنَّ جمهورًا خاصًّا قرأني، استوعب ملامح الأفكار، وابتسم لها بهدوء، كتبت القصَّ التقليدي، وجرَّبت القصَّ القصير جدًّا، وأظنُّ أنَّني قلت شيئًا، كنت صوتًا مضفورًا مع أصوات عديدة ضمن مرحلة حيويَّة، مرحلة سأكون سعيدة بانتمائي إليها بكلِّ تأكيد.
• كيف تنظرين إلى مسألة الكتابة النسويَّة؟
أنا أقف ضدَّ هذه القسمة؛ الإبداع بالنسبة إليَّ إبداع وحسب، بالحسبة المنطقيَّة المنصفة فإنَّ الأدب منذ أن ظهر، ومنذ أن مارسه الإنسان بأشكاله المختلفة ظهر مستندًا على الرجل، الإنجازات الأدبيَّة الكبرى: شعرًا، ونثرًا كانت ذكوريَّة، حين نفتِّش في الأسماء النسائيَّة المؤثرة نجدها قليلة، فهل سنضع الأدب النسوي في مقام نديَّة ومنافسة مع الأدب الذكوري _ مع فارق الكمِّ والنوع الواضح _؟ هل سنجعله في مرتبة تالية؟ هل سنخترع نظامًا يتيح تداول هذا الأدب وقراءته وفق أطر نقديَّة خاصَّة؟
هذه التساؤلات تكشف كم تحجِّر هذه القسمة الأدب الذي تكتبه المرأة: تسوِّره بتلك النظرة النسقية التي تقتل الإبداع، وتحرم القارئ من متعة المفاجأة والاكتشاف..!
• ما هي النصوص الأدبية التي تأثرت بها سهام العبودي من الأدب العربي والعالمي؟
لم أقرأ لكاتب محدَّد،لم أسمِّ يومًا كاتبي المفضَّل، قرأت الأدب كثيرًا بحكم دراستي، وميولي، لكنَّ قراءة الأدب وحده لا تصنع أديبًا، الهواء الذي تتنفسه النصوص الأدبيَّة يأتي من كلِّ النوافذ المفتوحة: من التاريخ، والاجتماع، والسياسة، والدين، وحين أبحث في قراءاتي الأدبيَّة أجد الشعر في رأس القائمة، ولا يزال، وربما أثر ذلك على نوع الكتابة التي أمارسها، فجاءت لغة نصوصي القصصيَّة شديدة الاقتراب من لغة الشعر. أحبُّ النصوص التي تشتغل على الوجع الإنساني، أحب العين الأدبيَّة التي تلتقط فتات الحياة وهوامشها لتجعلنا نكتشف أنَّ هذه الهوامش هي في حقيقتها المتون المنزوية لصالح الكثير من الهراء الذي يحيط بنا، أحبُّ النصوص التي أصدر كاتبها لغته فيها من إدارة هويَّة خاصَّة: مختومة وموقَّعة بنفسٍ خاص.. لا يحتمل التقليد، أحب أن تهمس النصوص بالأسئلة التي لا تغادر قلقها، ولا تسمح للقارئ بأن يغادرها دون أن يعديه هذا القلق ويعيد تشكيل رؤيته للحياة، وللأشياء من حوله..!
• جاء نصف مجموعتك القصصية "خيط ضوء يستدقُّ" قصصًا قصيرة جدًّا، لماذا وقع اختيارك على كتابة هذا الجنس الأدبي الصعب الذي يقوم على بلاغة الإيجاز وشعرية التكثيف وتنطبق عليه مقولة النفري الشهيرة "إذا اتَّسعت الرؤية ضاقت العبارة"؟
أقول دومًا إنَّ الأديب لا يفكِّر في قالبه، ثمة أفكار تفصِّل ثيابها، وتخلق ملامح الجسد الذي ستسكنه، مشكلة النصِّ القصصي القصير جدًّا هي اللغة، لأنها التفصيل الأكثر وضوحًا، قد لا يمكن ملاحظة الكلمة الزائدة أو النافرة في نصٍّ قصصي مكوَّن من خمسمائة كلمة، لكن يمكن ملاحظتها بدقة وانفضاح في نصٍّ مكوَّن من عشر كلمات، هناك إذن تحدٍ لغوي هائل، وربما كان ذلك ما يجذبني؛ فاللغة واحدة من أجمل الخصوم التي يمكن تحدِّيها، وأنا متورِّطة في حبِّ اللغة، ومدمنة لعمليتي التهذيب والصقل اللتين تتيحهما الكتابة، وتتيحهما القصة القصيرة جدًّا بشكل مضاعف، في النص القصصي القصير جدًّا لا يفضفض الكاتب كثيرًا؛ ليس ثمَّة شخصيات مرسومة ومدوِّخة، أو أمكنة موصوفة تشعل الحنين، وتعلِّق الحواس، أو غيرها من الأمور التي تشبع نهم القارئ، القصة القصيرة جدًّا مجرَّد ومض كاشف، لقطة يمكن أن تكون ناجحة، ومرسومة الأبعاد أو لا تكون، هناك تحدٍّ هائل يتعلَّق بالقدرة على الإيحاء، والاستناد إلى دلالات الكلمات، وهنا يكمن جوهر التحدي: كيف يمكن صياغة جملة قصصية قصيرة، بأقل قدر من الكلمات وبفيض من الدلالات؟ وهنا يكون الاشتغال أكثر على الثقة في ذكاء القارئ، وعلى إحصاء خلفياته الثقافية التي يمكن الإحالة إليها، واستثمارها.
• ما هو تصورك لمستقبل الأدب السعودي؟
هناك حراك أدبي لا يمكن المرور دون ملاحظته، يكفي مطالعة إحصاءات الإصدارات كلَّ عام، هناك ازدياد مطَّرد في عدد الكتَّاب، وعدد المؤلَّفات في فنون الأدب المختلفة، أعرف أن العدد الإحصائي لا يدلُّ بالضرورة على جودة هذا الحراك ووضوح أهدافه، لكنـَّه مؤشِّر مستقبلي يدلُّنا على الحركة الأدبيَّة تعبر نحو ضفَّة أخرى، وهذا وحده مبعث تفاؤل ورضا، المهم ألاَّ ينتهي هذا الحراك دون أن ينجز واجبه المرحلي: تقديم أدب يليق به، أدب خالد، يليق بعظمة الصحراء التي انبعث منها الشعر، ونبتت فيها المعلقة.
• سؤال قبل الأخير كيف هو المشهد الثقافي السعودي حسب رأيك؟
من حالفه الحظُّ واتصل بالمشهد الثقافي قبل عقدين من الزمان تقريبًا سيدرك كمَّ التغيُّر الذي أصاب وجه هذا المشهد، هناك جهودٌ تعمل على تعميم الثقافة، وهناك عوامل تسند هذه الجهود، عوامل فرضت نفسها بفعل التغيرات العالميَّة، وثورة الاتصال، لكنَّ "الثقافة" تظلُّ كلمة عملاقة، هل سأقول إني متفائلة؟ نعم، هل سأقول إني متفائلة جدًّا؟ ربما، تصوُّري عن الفعل الثقافي لن يكون مفصولاً عن وظيفته: ما الذي سيغيره مشهد ثقافي حافل ومتنوِّع ونشط؟ هل ستحل الثقافة مشكلاتنا؟ أم هل يجب أن نحل مشكلاتنا حتى نحصل على مجتمع مثقف؟ كيف ستضطلع الثقافة بدورٍ يصنع فرقًا في حياة إنسان عادي تمتلئ جيوبه بهموم الحياة اليوميَّة؟ مشكلة الثقافة_عمومًا_ والأدب _ خصوصًا _ أنهما ضحية كل عملية إزاحة؛ ينافسهما دومًا رغيف الخبز، وثمن العلاج.. حتى تواترت هامشيتهما، سيكون المشهد الثقافي فاعلاً حين يرتقي _ بسببه _ الإنسان العادي، وحتى مع أقصى درجات الاجتهاد لن تستطيع الجهات التي تعنى بالشأن الثقافي أن تقوم بدورها إن لم تسندها كلُّ المؤسسات التي تؤثر في هذا الإنسان. * سؤال أخير: ما هي آخر أعمالك السردية؟
الآن أنا منشغلة بإصدار عمل أدبي جديد، وهو جملة من النصوص القصصيَّة القصيرة جدًّا، آمل أن أبعث بنصوصي هذه دهشة ما، وأن يكون مستوى الكتابة لديَّ قد تطوَّر في بعض وجوهه، وأنا هنا _ في عملي الجديد _ كما كنت: التفت إلى البعيد والسحيق والهامشي وغير المرئي في الحياة، اشتغل على اللغة، وأرسم بها وجهًا لوجودي القصصي كلَّما تعثرت بفكرة..!
جريدة القدس العربي
2/3/2010